وفي ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان التي قيل إنّها ليلة القدر اشتدّت الآلام القاسية بالإمام عليه السلام فقد تزايد ولوج السمّ في جسده الشريف ، وقد وصف حالته ولده محمّد بن الحنفية قال :
نظرنا إلى قدميه وقد احمرّتا فكبر ذلك علينا وأيسنا منه ، ثمّ عرضنا عليه المأكول والمشروب فأبى ، ونظرنا إلى شفتيه وهما تختلجان بذكر الله تعالى ، وجعل جبينه يرشح عرقا ، فقال له محمّد [1]:
ما لي أراك يرشح جبينك عرقا؟
فأجابه الإمام :
« يا بنيّ ، إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه واله يقول : إنّ المؤمن إذا نزل به الموت عرق جبينه وسكن أنينه ».
ولمّا أحسّ بدنوّ الأجل المحتوم منه أمر بجمع أولاده ليودّعهم الوداع الأخير ، فلمّا مثلوا عنده قال لهم بصوت خافت :
« الله خليفتي عليكم ، استودعكم الله ».
وتعالت أصوات أولاده بالبكاء ، والتفت إليه ولده الزكي الإمام الحسن عليه السلام فقال له : « يا أبة ، ما الذي دعاك إلى هذا؟ ».
« يا بنيّ ، رأيت جدّك رسول الله صلى الله عليه واله في منامي قبل هذه الكارثة بليلة ، فشكوت إليه ما أنا فيه من التّذلّل والأذى من هذه الأمّة.
فقال لي : ادع عليهم.
فقلت : اللهمّ أبدلهم بي شرّا منّي ، وأبدلني بهم خيرا منهم ...
فقال لي : قد استجاب الله دعاءك ، وسينقلك إلينا بعد ثلاث ، وقد انقضت الثّلاث. يا أبا محمّد ، اوصيك بأبي عبد الله ـ يعني الإمام الحسين ـ خيرا ، فأنتما منّي ، وأنا منكما ».
ثمّ التفت إلى بقيّة أولاده ، وأمرهم أن لا يخالفوا سيّدي شباب أهل الجنّة الإمامين الحسن والحسين ، وأن يطيعوهما ، ثمّ قال لهم :
« أحسن الله لكم العزاء ألا وإنّي منصرف عنكم في ليلتي هذه ، ولاحق بحبيبي محمّد صلى الله عليه واله كما وعدني ».
ثمّ اغمي عليه ساعة ، فلمّا أفاق قال لولده :
« هذا رسول الله صلى الله عليه واله وعمّي حمزة ، وأخي جعفر ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه واله كلّهم يقولون : عجّل قدومك علينا فإنّا إليك مشتاقون ... ».
ثمّ قال لهم برفق :
« أستودعكم الله جميعا ، الله خليفتي عليكم وكفى بالله خليفة » ، ثمّ سلّم على ملائكة الله الكرام الذين أحاطوا به لينقلوا روحه المقدّسة إلى الفردوس الأعلى ،
وأخذ يقرأ آيات من الذّكر الحكيم ، وكان آخر ما نطق به قوله تعالى : ( لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ ) [2] و ( إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ) [3] ، ثمّ فاضت روحه الطاهرة إلى جنّة المأوى تحفّها ملائكة الله والأنبياء والأوصياء.
لقد سمت تلك الروح العظيمة إلى بارئها لتقدّم إليه ما عاناه من الجهد في سبيل إعلاء كلمة الإسلام ، وما لاقاه من الخطوب من طغاة القرشيّين.
لقد ارتفع إلى الله تعالى ذلك اللطف الإلهي الذي خلقه الله تعالى ليبدّد ظلمات الجهل ، ويطهّر الأرض من أوثان الجاهلية وأرجاسها.
لقد مادت أركان العدالة ، وانطمست معالم الدين ومات أبو الغرباء ، وكهف الأيتام ، وعون الضعفاء.
لقد مضى الإمام إلى جنّة المأوى ، وهو مكدود ، مجهود غارق في الأسى والخطوب ممّا عاناه من أعمدة القرشيّين .
روت أسماء بنت عميس أن الإمام شهق شهقة ثمّ أغمي عليه ، ثمّ أفاق فقال : « مرحبا مرحبا ، الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الجنّة ».
قيل له : ما ترى؟
قال : « هذا رسول الله وأخي جعفر وعمّي حمزة ، وأبواب السماء مفتّحة ، والملائكة ينزلون يسلّمون عليّ ويبشّرون ، وهذه فاطمة قد طافت بها وصائفها ، وهذه منازلي في الجنّة لمثل هذا فليعمل العاملون ».جاء ذلك في ربيع الأبرار 4 : 208.
[1] محمّد بن الحنفية يكنّى أبا القاسم بشّر به النبيّ قبل ولادته ، فقد قال لعليّ : « سيولد لك بعدي غلام قد نحلته اسمي وكنيتي ».
جاء ذلك في نصرة الشعائر على المثل السائر ـ الصفدي : 74.
وفي جامع الاصول 1 : 280 أنّ الإمام قال لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم : « أرأيت إن ولد لي ولد بعدك اسمّيه باسمك واكنّيه بكنيتك؟ قال : نعم ». فلذا سمّاه الإمام محمّدا.
[2] الصافّات 37: 61.
[3] النحل 16: 128.
موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام المؤلف : القرشي، الشيخ باقر شريف : ج 11 ص 265-267.